القائمة الرئيسية

الصفحات

آخر الأخبار

رحل بادي محمد سالم: عبقري الشعر الصحراوي و"مَلاَكُهُ"




كتبه بالإسبانية : باهية محمود أواه
ترجمه للعربية : ناجي محمد منصور

"يسكن الشيطان في لسان كل شاعر"، بادي محمد سالم عبد الله
تركنا إلى دار البقاء الشاعر والعلامة بادي يوم السبت 09 نونبر 2019. ظل في أيامه الأخيرة يقول لبناته أنه سيسلم روحه لباريها. وفي يوم الاحتفال بعيد مولد الرسول محمد، أسر لعائلته بأنه يرغب في ترك "وصية للشعب الصحراوي"، صاغها في قالب شعري وسلمها لعائلته. وكأنه كان يحضر مرثيته الأخيرة. نهض، وصلى، ثم خر ساقطا بينما كان يناجي ربه على أليويشيه الطاهر. وفاضت روحه لخالقها، في يوم يتمنى كل مؤمن أن يسلم فيه روحه لبارئها. ولم تكن وصية الشاعر بادي للصحراويين سوى هذه الأبيات الخالدة:

يا الشعب الفكرك مرفوع       لا أدير الوحد فنزاع
لا ترظي بها مفكوع          و لا تصيفط بها طماع

كرس بادي حياته للشعر. لأن الشعر كما يقول غارثيا لوركا "يخفض جناحه للعشاق وليس للأتباع". قال لنا بادي، أثناء إحدى حواراتنا معه في وثائقي "لغنى، كلام الشعر الصحراوي" سنة 2011، كلمة نابعة من مثقف من طينة الكبار "دور الشاعر هو توجيه المجتمع نحو الوجهة الصحيحة". ولأن الشاعر يرى أبعد من انبهاره بالكلمة، فقد استرسل بادي قائلا: "إلا أن المجتمع يجب أن يتمعن في ما يقوله الشاعر".

كان بادي ابن تيرس؛ بلد الشعر، والمقاتلين ضد الاستعمار، والفرسان، والفقهاء الصحراويين. لقد سمعته ذات مرة، كنت اضطلع فيها بمهمة الترجمة، يحكي لجلسائه في خيمته عن مكان ميلاده ونشأته. وفي مرات أُخَرَ كنت أنصت له، عندما أزوره لوحدي في خيمته، لعله يفتح لي بعض المغاليق، التي أصادفها أثناء أبحاثي حول الأدب الصحراوي، ورواده الأوائل. لقد كان يقدم نفسه بالشكل التالي "اسمي محمد المصطفى، غير أن الجميع يعرفني باسم بادي محمد سالم. رأيت النور في يوم من أيام سنة 1936 في اجناب، قرية صغيرة للبدو قرب بلدة الكلتة، في طرف تيرس المحاذي لشمال زمور".

تعود علاقتي بتلك القامة الشعرية العالية لسنوات الطفولة. عندما كان عسكريا مع والدي، في تشكيلة القوات المترحلة أثناء الحقبة الاستعمارية الإسبانية. كانت أمي رحمها الله، صديقة حميمة لزوجة بادي سنوات الستينيات، باكرة منت الكنتي ولد محمد ولد الخليل. تعودت زمن الصبا على قصائده، التي كانت تحفظها أمي عن ظهر قلب وتحكيها في دارنا في أوسرد، وبعد ذلك في خيمتنا في سنوات اللجوء.

شهدت سنة 2017 إحدى آخر اللقاءات في خيمة بادي. كنت آنذاك رفقة صديقيه الأستاذين خوان كارلوس خيمينو وخوان إثغناثيو روبليس، المشرفين على وثائقي "لغنى، كلام الشعر الصحراوي"، والمهتمين بجمع قصائد الشاعر بادي ودراستها، إلى جانب قصائد كبار الشعراء الصحراويين. وكانت معنا أيضا الأنتروبولوجية روثيو ميذينا والباحثة البرتغالية إيزابيل غوميس. استقبلنا بادي مع بناته، وأكرم وفادتنا كما يكرم الصحراويون أصدقائهم. أتذكر أنه تراجع عن السفر معنا إلى تيرس سنة 2011 بسبب صعوبات في البصر، بعد أن قررنا التنقل إلى تلك الوجهة للتحضير لفيلم "لغنى، كلام الشعر الصحراوي".

 وبعد عودتنا من تيرس أمضينا يوما بمعيته، في خيمته المضيافة التي توجد في دائرة الفرسية. قصصنا عليه رحلتنا إلى تيرس، وودعناه، ودعوناه أن يرافقنا إلى تيرس في المرة القادمة. قال لنا أنه كان بوده لو رافقنا في رحلتنا التي عدنا منا للتو، إلا أنه كان مرتبطا بموعد طبي لإجراء عملية لعلاج اعتام عدسة العين. ثم تحدث لنا عن عشقه لتيرس, وقد أوردت كلماته عن ذلك العشق في كتابي "تيرس، مسارات أدبية". يقول بادي في هذا الصدد "إذا وجدت الجنة يوم الآخرة، فإنها حتما ستكون بين جبال أوسرد، ولجواد، ولشوف، وأمات لرفاد، وفي منطقة تيرس بأكملها".

لقد كان بوحه ذاك بحب منطقة تيرس بوحاً سامياً، لأن منطقة تيرس هي عروس الشعراء. يقول خوان رامون خيمينيث في هذا الصدد: "يبدو أن العالم كله يشتعل ربيعا عندما نحب".

يقول بادي: "كنا نذرع الصحراء أنا وعائلتي ومواشينا من جنوبها حتى شمالها في وادي الساقية الحمراء، وجنوبا حتى نلج موريتانيا وتحديدا منطقة تاكانت. لقد كنا نطارد المطر والمرتع". كانت تكانت هي سكن الشاعر الموريتاني محمد ولد أدبه، الذي لم يترك جبلا من جبال تلك المنطقة إلا وأحصاه في شعره، الذي تغنى به أولاد أبا وخلدوه في أشرطتهم الغنائية. كما خلد أولاد أيده، سدوم والخليفة، قصائد بادي التي تغنى فيها بأرض تيرس.

لقد كان حب الأرض هو القاسم المشترك بين تلك القامتين الشعريتين البارزتين في الأدب الحساني.

لا يسعني، للحديث عن عبقرية بادي الشعرية، إلا أن استحضر كلا من خورخي غيين، ووالت وايتمان، وميغيل هيرنانديز، وغارسيا لوركا، وانطونيو ماتشاذو، ومحمود درويش، وإدواردو غاليانو، وماريو بينيديتي، ومحمد ولد أدبه، وأولاد هدار. أو شعراء صحراويين من القرن الماضي، مثل الشاعر الصحراوي المناهض للاستعمار الدخيل ولد سيدي بابا. الذي يعتبره بادي شاعره الملهم كما قال لي ذات مرة. يقول شاعرنا في هذا المضمار "هناك ثلاث قامات شعرية بارزة في التاريخ الصحراوي وهم الدخيل ولد سيدي بابا، وبنيوك ولد عبد الله، وولد أهويدي. دون أن ننسى لحبيب ولد أصنيبه".

يمكن تلخيص غروب حياة هذا الشاعر الخالد في الذاكرة دوما، في عبارة تعود للشاعر المكسيكي أماذو نيربو، عندما قال: "أرى في نهاية طريقي المتعرج، أني أنا من رسمت نهايتي". وهكذا كان بادي؛ عميق في شعره، ومتمرد، ومتوقد، وحساس، ومعقد، ومتضامن، وذاتي ولا يقهر، وملتزم مع شعبه ومناضل من أجل قضيته حتى النخاع.

رحل بادي عن هذا العالم، إلا أنه سكن الذاكرة الصحراوية إلى الأبد. واستقر في وجدان كل من عرف عظمة شعره وفهمها. لأن "من يمت من أجل قضية كبرى يبقى حيا إلى الأبد" كما قال لورد بايرون.

تعليقات